كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم حث على التزام التكاليف المذكورة بقوله: {ومن يكفر بالإيمان} أي بشرائع الله وتكاليفه التي هي من نتائج الإيمان بالله ورسوله. وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ومن يكفر برب الإيمان أي بالله. وقال قتادة: ومن يكفر بالقرآن الذي أنزل فيه هذه التكاليف التي لابد منها في الإيمان فقد خاب وخسر. وفيه أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلاّ أن ذلك لا يفيدهم في الآخرة لأنّ كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة ألبتة. واعلم أنّ القائلين بالإحباط فسروا قوله: {قد حبط عمله} بأنّ عقاب كفره يزيل ما كان حاصلًا له من ثواب أعماله. ومنكروا الإحباط قالوا: إنّ عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان قد بان أنه لم يكن معتدًا به وكان ضائعًا في نفسه. ثم إنه سبحانه لما افتتح السورة بطلب الوفاء بالعقود فكأن قائلًا قال: عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا وأنت أولى بتقديم الوفاء بعهد الربوبية فأجاب الله تعالى نعم أنا أوفى بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم ولذات المنكح فبيّن الحلال والحرام من المطاعم والمناكح، وقدم المطعوم على المنكوح لأنه أهم. وعند تمام هذا البيان كأنه قال: قد وفيت بعهد الربوبية فاشتغل أيها العبد بوظائف العبودية ولاسيما بالصلاة التي هي أعظم الطاعات وبمقدماتها. ونبني تفسير الآية على مسائل:
الأولى ليس المراد بقوله: {إذا قمتم} نفس القيام وإلاّ لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو بالإجماع باطل، وأيضًا لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدًا أو مضطجعًا لخرج عن العهدة بالإجماع، فالمراد إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك ووجه هذا المجاز أنّ الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم المسبب على السبب مجاز مستفيض.
الثانية: ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس تكليفًا مستقلًا لأنه شرط القيام إلى الصلاة. والأصح أنه عبادة برأسها لأن قوله: {فاغسلوا} أمر ظاهره الوجوب غاية ذلك أنه مقيد بوقت التهيّؤ للصلاة. وأيضًا إنه طهارة وقد قال تعالى في آخر الآية: {ولكن يريد ليطهركم} وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الدين على النظافة» وقال: «أمّتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة» والأخبار الواردة في كون الوضوء سببًا لغفران الذنوب كثيرة.
الثالثة: قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة فإنه ليس المراد قيامًا واحدًا في صلاة واحدة وإلاّ لزم الإجمال إذ لا دليل على تعيين تلك المرة، والإجمال خلاف الأصل فوجب حمل الآية على العموم. وأيضًا ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب مشعر بالعلية فيتكرر بتكرره فيجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة.
وأيضًا إنه نظافة فلا يكون منها بدّ عند الاشتغال بخدمة المعبود. وقال سائر الفقهاء: إنّ كلمة «إذا» لا تفيد العموم ولهذا لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق مرة أخرى بالدخول ثانيًا. ويروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلاّ يوم الفتح فإنه صلى الله عليه وسلم صلّى الصلوات كلها بوضوء واحد. قال عمر: فقلت له في ذلك فقال: عمدًا فعلت ذلك يا عمر. أجاب داود بأنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن. وأيضًا في الخبر معنيان: أحدهما: وجوب التجديد لكل صلاة لا أقل من استحباب ذلك. الثاني أنه ترك ذلك يوم الفتح والأوّل يوجب المتابعة والثاني مرجوح لأنّ الفتح يقتضي زيادة الطاعة لا نقصانها. وأيضًا التجديد أحوط، وأيضًا دلالة ظاهر القرآن قولية ودلالة الخبر فعلية والقولية أقوى. ولناصر المذهب المشهور أن يقول: التيمم على المتغوّط والمجامع واجب إذا لم يجد الماء لقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} الآية. وذلك يدل على أنّ وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة فلم يكن هو مؤثرًا وحده، وإذا لم يكن مؤثرًا مستقلًا جاز تخلف الأثر عنه. نعم التجديد مستحب لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يتوضؤن لكل صلاة وقال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجبًا أوّل ما فرض ثم نسخ.
الرابعة: الأصح أن في الآية دلالة على أنّ الوضوء شرط لصحة الصلاة لأنه علق فعل الصلاة بالطهور، ثم بيّن أنه متى عدم الماء لم تصح الصلاة إلاّ بالتيمم، فلو لم يكن شرطًا لم يكن كذلك. وأيضًا إنه أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بها بدون الوضوء تارك للمأمور به فيستحق العقاب وهذا معنى البقاء في عهدة التكليف.
الخامسة: قال أبو حنيفة: النية ليست شرطًا في الوضوء لأنها غير مذكورة في الآية والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخير الواحد وبالقياس غير جائز. وعند الشافعي هي شرط فيه لأنّ الوضوء مأمور به لقوله: {فاغسلوا} {وامسحوا} وكل مأمور به يجب أن يكون منويًا لقوله تعالى: {وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين} [البينة: 5] والإخلاص النية الخالصة، فأصل النية يجب ان يكون معتبرًا. وغاية ما في الباب أنها مخصوصة في بعض الصور فتبقى حجة في غير محل التخصيص.
السادسة: قال مالك وأبو حنيفة: الترتيب غير مشروط في الوضوء لأن الواو لا تفيد الترتيب، فلو قلنا بوجوبه كان من الزيادة على النص وهو نسخ غير جائز. وقال الشافعي: إنه واجب لأن فاء التعقيب في قوله: {فاغسلوا} توجب تقديم غسل الوجه ثم سائر الأعضاء على الترتيب.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الصفا: «ابدؤا بما بدأ الله به» وأيضًا الترتيب المعتبر في الحس هو الابتداء من الرأس إلى القدم أو بالعكس، والترتيب العقلي إفراد العضو المغسول عن الممسوح. ثم إنه تعالى أدرج الممسوح في المغسول فدل هذا على أن الترتيب المذكور في الآية واجب لأن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه. وأيضًا إيجاب الوضوء غير معقول المعنى لأن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ولأن أعضاء المحدث طاهرة لقوله: «المؤمن لا ينجس حيًا ولا ميتًا» وتطهير الطاهر محال ولأن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء وليس في التيمم نظافة، وأقام المسح على الخفين مقام الغسل ولا يفيد في نفس العضو نظافة والماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فإذن الاعتماد على مورد النص. ولعل في الترتيب حكمًا خفية لا نعرفها أو هو محض التعبد. وقد أوجبنا رعاية الترتيب في الصلاة مع أن أركان الصلاة غير مذكورة في القرآن مرتبة فرعاية الترتيب في الوضوء مع أن القرآن ناطق به أولى.
السابعة: قال الشافعي وأبو حنيفة: الموالاة في أفعال الوضوء غير واجبة لأن إيجاب هذه الأفعال قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي، وهذا القدر معلوم من الآية ومفيد للطهارة والزائد لا دليل عليه، وأيضًا روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا توضأ وترك لمعة من عقبة فأمره بغسلها ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن المدة الفاصلة، وعند غيرهما شرط كيلا يتخلل بين أجزاء العبادة ما ليس منها، وحدّ التفريق المخل بالموالاة أن يمضي من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص.
الثامنة: قال أبو حنيفة: الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء لأن ظاهر الآية يقتضي الإتيان بالوضوء لكل صلاة لما مر ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولًا به عند خروج الخارج النجس. وخالفه الشافعي تعويلًا على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه.
التاسعة: قال مالك: لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة لنا التمسك بعموم الآية.
العاشرة: قال أبو حنيفة: القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء. وقال الباقون: لا تنقض لأبي حنيفة أن يتمسك بعموم الآية.
الحادي عشر: قال أبو حنيفة: لمس المرأة وكذا لمس الفرج لا ينقض الوضوء. وقال الشافعي: ينقض متمسكًا بالعموم.
الثانية عشرة: لو كان على وجهه وبدنه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة من الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوءًا؟ قال في التفسير الكبير: ما رأيت هذه المسألة في كتب الأصحاب.
قال: والذي أقوله أنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله: {واغسلوا} وقد أتى به، وأقول: الظاهر أنه لا يكفي لأنه لا يرتفع بغسلة واحدة نجاستان حكمية وعينية وهذا بخلاف ما لو نوى التبرد أو التنظف فإن النجاسة هناك حكمية فقط.
الثالثة عشرة: لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوءه؟ يمكن أن يقال: لا لأنه لم يأت بعمل. وأن يقال: نعم لأنه أتى بما أفضى إلى المقصود وهو الانغسال.
الرابعة عشرة: إذا غسل أعضاء الوضوء ثم كشط جلده فالأظهر وجوب غسله لتحصيل الامتثال فإن ذلك الوضع غير مغسول.
الخامسة عشرة: لو رطب الأعضاء من غير سيلان الماء عليها لم يكف لأنه مأمور بالغسل وهذا ليس بغسل، وفي الجنابة يكفي لأنه هناك مأمور بالتطهير لقوله: {ولكن يريد ليطهركم} والتطهير يحصل بالترطيب.
السادسة عشرة: لو أمر الثلج على العضو فإن ذاب وسال جاز وإلاّ فلا خلافًا لمالك والأوزاعي لنا فاغسلوا وهذا ليس بغسل.
السابعة عشرة: التثليث سنة لأن ماهية الغسل تحصل بالمرة.
الثامنة عشرة: السواك سنة لا واجب لأن الآية ساكتة عنه وكذا القول في التسمية خلافًا لأحمد وإسحاق. وكذا في تقديم غسل اليدين على الوضوء خلافًا لبعضهم.
التاسعة عشرة: قال الشافعي: لا تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل، وأحمد وإسحاق يجب فيهما. أبو حنيفة: يجب في الغسل لا في الوضوء. حجة الشافعي أنه أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجهًا وحده من مبتدأ تسطيح الجهة إلى منتهى الذقن طولًا، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا، وداخل الفم والأنف غير مواجه.
العشرون: ابن عباس: يجب إيصال الماء إلى داخل العين لأن العين جزء من الوجه. الباقون: لا يجب لقوله في آخر الآية: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} وإدخال الماء في العين حرج.
الحادية والعشرون: غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند الشافعي وأبي حنيفة ومحمد خلافًا لأبي يوسف. لنا أنه واجب قبل نبات الشعر بالإجماع فكذا بعده ولأنه من الوجه والوجه يجب غسله كله.
الثانية والعشرون: أبو حنيفة: لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة. الشافعي: يجب لقوله: {فاغسلوا} ترك العمل عند كثافة اللحية دفعًا للحرج فيبقى عند كثافتها على الأصل.
الثالثة والعشرون: الأصح عند الشافعي وجوب إمرار الماء على ظاهر اللحية النازلة طولًا والخارجة إلى الأذنين عرضًا لأن مواجه. مالك وأبو حنيفة والمزني: لا يجب لأنه لا جلد تحتها حتى يغسل ظاهرها بتبعيتها.
الرابعة والعشرون: لو نبت للمرأة لحية وجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت لحيتها كثيفة لأنا تركنا العمل بظاهر الآية في اللحية الكثيفة للرجل دفعًا للحرج ولحية المرأة نادرة وخصوصًا الكثيفة فيبقى حكمها على الأصل.
الخامسة والعشرون: يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع: العنفقة والحاجب والشارب والعذار والهدب لأن قوله: {فاغسلوا} يدل على وجوب غسل كل جلدة الوجه ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعًا للحرج وهذه الشعور خفيفة غالبًا فتبقى على الأصل.
السادسة والعشرون: الشعبي: ما اقبل من الأذن فهو من الوجه فيغسل، وما أدبر فمن الرأس فيمسح وردّ بأن الأذن غير مواجه أصلًا.
السابعة والعشرون: الجمهور على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين وخالف مالك وزفر وكذا، الخلاف في قوله: {وأرجلكم إلى الكعبين} والتحقيق أن «إلى» تفيد معنى الغاية مطلقًا، والمراد بالغاية جميع المسافة أو حقيقة النهاية. ثم إنّ حد الشيء قد يكون منفصلًا عن المحدود حسًا انفصال الظلمة عن النور في قوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فيكون الحد خارجًا عن المحدود. وقد لا يكون كذلك نحو حفظت القرآن من أوّله إلى آخره وبعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فيدخل الحد في المحدود، ولا شك أن المرفق وهو موصل الذراع في العضد سمي بذلك لارتفاق صاحبها بها غير متميزة في الحس عن محدودها فلا يكون إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب غسلها جميعًا. وإن سلم أن المرفق لا يجب غسلها لكنها اسم لما جاوز طرف العظم، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله. وهذا الجواب اختيار الزجاج. وعلى هذا فمقطوع اليد من المرفق يجب عليه إمساس الماء بطرف العظم وإن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب عليه شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلًا.